يشرفني أن يكون مقالي الأول لموقع أجندة الغد عن المولد النبوي الشريف لعام ١٤٤٤هـ على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، هذه المناسبة العزيزة التي يحتفل بها مليار مسلم على ظهر البسيطة من مشرقها إلى مغربها. فشرف الحديث عن أفضل الخلق شرف لا يضاهيه أي شرف على الإطلاق، كيف لا وهو سيد الأولين والآخرين بشهادة رب العزة تبارك وتعالى
محمدٌ هذا الاسم الذي تربع على عرش التاريخ منذ مولده ولم يزل كذلك باعتراف غير المسلمين على مر العصور بدءً بعتاة وجهابذة قريش ويهود المدينة وصولا إلى مفكري وفلاسفة الحضارة الغربية الحديثة الذين أكدوا في كثير من شهاداتهم عظمة هذا النبي وعظمة دينه ولعل كتاب مايكل هارت “العظماء مائه أعظمهم محمد ” هي الشهادة الأشهر وإن لم تكن الوحيدة في هذا السياق
وإذا تساءلنا عن الأسباب التي جعلت من رسولنا الكريم الشخصية الأولى في نظر الكثيرين فسنجد أنها ليست مادية أو دنيوية البتة، بل هي أسباب إنسانية وأخلاقية في المقام الأول
فلم يتسيد محمدٌ صلى الله عليه وسلم قومه بجاه أو مال ولكنه تسيدهم بما يحمل من مبادئ وقيم إنسانية نبيلة كالصدق والأمانة والعفة والعدل وغيرها، حتى أنه عرف قبل البعثة بالصادق الأمين حيث كان أهل مكة يودعون أمانتهم لديه وعندما قرر الهجرة وَكل علي بن أبي طالب بردها إلى أهلها على الرغم من حالة العداء بينه وبين قريش
لم يكن الرسول محمد يسعى لملك أو منصب وخير دليل على ذلك رفضه كل عروض قريش ليملكوه عليهم ويتخلى عن دعوته الجديدة رفضا قاطعا، ولم يتردد كذلك أو يتزحزح قليلا في سبيل نشر رسالته مهما كلفه الأمر فكانت مقولته الشهيرة لعمه أبو طالب “يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه”
في المقابل فإن رفض قريش لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن كلها دينية صرفة كما تدعي بل كان منحى صراع الزعامات حاضرا بقوة في المشهد وليس أدل على هذا من قول عدو الله أبو جهل الذي ينتسب إلى بنى مخزوم “ولقد والله تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أعطوا فأعطينا وأطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا حتى إذا تساوينا وأصبحنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك نحن بنو مخزوم هذه” ناهيك عن الخشية على المصالح التجارية التي كانت مكة مركزا لها في حال تغير موازين القوى واستتباب الأمر للنبي محمد وللإسلام
وهكذا و بعد أن كان محمدا طفلا يتيما ثم شابا معدما وداعية منبوذا وبعد حصار قريش له في شعب بني عامر لثلاثة سنوات عجاف وصموده هو وقلة مؤمنة في بدر أمام كثرة كافرة وانتكاسة أحد وحرب هوازن وغنائم حنين، وهجوم الأحزاب عليه من أمامه والتفاف يهود بني قريضه من الخلف وبعد أن ضاق به الحال لتجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك ومع مرور الأيام والسنوات وبالعزم والإصرار والإيمان والصبر والحلم والأناة دانت له العرب والعجم
ومع العظمة التي تحققت لهذا النبي ورسالته التي عمت الأرض لم يكن إلا ذلك الإنسان المتواضع الذي لم يرفع صوته أو يترفع بمكانته على أحد. ولم ينتصر محمدا لذاته على الرغم مما تعرض له من سب وشتم وإهانات وحرب وتجويع ولكنه انتصر للإنسانية ومكارم الأخلاق، ولم يكن هذا الرسول بذيئا أو فاحشا أو حانقا ولكنه كان هينا لينا لطيف المعشر متسامحا. ألم يكن هو الذي قال يوم فتح مكة “اذهبوا فأنتم الطلقاء” بعد ما عانى من قومه ما عانى من تسفيه وتكذيب وتهجير فكسب بذلك القلوب والعقول. لقد كانت حياته تطبيقا منهجيا للحديث الشريف “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
كان الرسول محمد كريما جوادا حتى أنه أعطى رجلا غنما بين واديين من غنائم غزوة حنين، فقاد الرجل الأغنام إلى قومه هاتفا لقد أتيتكم من عند أكرم أهل الأرض أتيتكم من عند من يعطي عطاء لا يخشى الفقر، ليأتوا بعد ذلك وقد أسلموا جميعا لأنهم أدركوا أن الرجل ليس بطالب دنيا بل زاهدا فيها.
وفي الختام ونحن نحتفل بهذه الذكرى العطرة علينا أن ندرك أننا بحاجة ماسة إلى استلهام سيرة هذا النبي العظيم في كل مجالات حياتنا في بيوتنا وأعمالنا وتجارتنا وصناعاتنا وبيئتنا ومدارسنا ومساجدنا لما تحمله من قيم عالية وقواعد متينة تقوم عليها الأسر والمجتمعات والأفراد والدول وأن نحث أنفسنا وأبنائنا على إتباع صفاته الكريمة وخصاله الحميدة.